يرتكب أغلب المجادلين في حضارة الإسلام خطأً شائعاً وهذا الخطأ أصبح كأنه الصواب ، لكثرة ما شاع حتى انغرس في الأذهان ، وتحول إلى (حقيقة). إنه إقامة الحجة على الملتزمين بالنهج الإسلامي، بأن تاريخ الإسلام ما هو إلا مسلسل استبداد ، وسفك دماء، وانتهاك حقوق ، منذ الفتنة الكبرى إلى عهد الخلافة العثمانية، أو حتى إلى يوم الناس. وهو تفسير أيديولوجي موجه للتاريخ ، يستعمله عادة المستشرقون المغرضون، وتلامذتهم ومريدوهم من بني جلدتنا لإفحام خصومهم ومخالفيهم. ولكن على شدة ما استعمل هذا المنطق، وعلى طول تكراره ، تبناه معظم شبابنا عن حسن نية، واعتمدوه في كل جدل ، كأنما اقتنعوا به، وإنك تعثر على أثره في كتبهم ومقالاتهم ودراساتهم ، ومداخلاتهم، وهو منطق يبعث الريبة في نفوس المسلمين، ويزعزع إيمانهم ، ويحدث شروخاً في كبريائهم، ويجعلهم أذلة في اللقاءات والندوات والمناظرات.
وهكذا نجح أعداء الإسلام ، في زلزلة الإيمان في قلوب الشباب ، حينما يقدمون أمثلة الفتنة الكبرى ، ومقتل عثمان ، والحرب الطويلة ، بين على كرم الله وجهه ، ومعاوية ، كأنها هي الوجه الوحيد لفجر الإسلام ، في حين يغفلون فتح مكة ، وملحمة الشورى في السقيفة ، وهزيمة البيزنطيين في فلسطين ، وانتصار الإسلام على الفرس في القادسية ، وفتح مصر على يد عمرو بن العاص ، والقضاء على الدولة الساسانية ، وفتح أرمينيا وجورجيا ، وانتصار المسلمين في البحر على الأسطول البيزنطي في معركة أم الصواري . كل هذه الملاحم التي توشح صدر الإسلام في فجره وقعت فيما بين عام 632م ، حين التحق النبي الكريم صلى الله عليه و سلم بالرفيق الأعلى ، وسنة 656م حين قتل عثمان بن عفان ، وتولى علي بن أبي طالب رضي الله عنهما . وهي الانتصارات التي تحققت للإسلام في مطلع شمسه ، ووضع عبرها أقدامه على أرض يابسة من التمكن ، حتى أتيح له ما جاء بعدها من فتوحات . وهذه الانتصارات الكبرى ، نكاء لا نعثر لها على أثر في أغلب كتابات المؤرخين من مستشرقين وتلاميذ المستشرقين من العرب ، لأن هم هؤلاء ليس إنصاف التاريخ الإسلامي ، بل غرضهم الطعن فيه ، وفي رجاله ومؤسسيه ، واتخذوا لذلك خطة محكمة ، وهي إبراز التاريخ الأصغر على حساب التاريخ الأكبر.
التاريخ الأصغر هو تاريخ الصراع السياسي - الدموي أحياناً - من أجل القيادة والحكم.. والتاريخ الأكبر هو ذلك المد الإسلامي العظيم الواثق الذي نبع كالنهر القوي الدافق من جهاد الرسول صلى الله عليه و سلم ، وانطلق فاتحاً الأمصار وهادياً الأمم ، وحاملاً أمانة السلام والعدل ، ومؤمناً الشعوب المغايرة على حياتها ومعتقداتها وأملاكها وأعراضها.
التاريخ الأصغر هو تاريخ الرجال كأشخاص يتقاتلون من أجل سدة الحكم وهم - مسلمين أو غير مسلمين - لا يعدون كونهم أفراداً لهم نفوس بشرية لم يعلن الله سبحانه ، ولا الرسول صلى الله عليه و سلم ، أنها معصومة من الخطأ والزلل ، وأنها منزهة عن الضعف والخلل ، بل قال الله تبارك وتعالى: (ونفس وما سواها ، فالهمها فجورها وتقواها ) (الشمس : 7 -
.
ذلك هو التاريخ الأصغر الذي تعلمته أجيال المسلمين ، وحجب عنها رؤية نور التاريخ الأكبر . تاريخ الأمة بأكملها : كيف نشأت ؟ وكيف جاهدت ؟ وكيف فتحت ؟ وكيف انتصرت ؟ وكيف سادت؟
وهذه الملاحم العظمى الخالدة ، بما فيها من شحنات تربوية ، كان من المفترض أن نؤسس عليها كبرياء أمتنا ، خلال القرون ، وقع مع الأسف اختزالها ، بل أريد لها كسوف كامل مثل كسوف الشمس وراء كوكب الفتنة الكبرى، وموقعة الجمل ( 656م ).
وهذا مثال واحد من كامل مسلسل الغش والخديعة ، الذي زيف تاريخنا وجاء من بعده مثال الصراع بين الدولة وخصومها ، وهو من باب التاريخ الأصغر، حيث غطت القصص الأدبية الملفقة ، التي حيكت عن يزيد والوليد ، على أولى انتصارات المسلمين في الهند ، وعبور جيحون إلى بلاد الترك (من 664م إلى 667م)، والحدث الحاسم المتمثل في فتح المغرب الإسلامي ، وتأسيس القيروان (670م) وبدء حصار المسلمين لمدينة القسطنطينية ، قلعة النصرانية في المشرق ( 678م ) ، وضرب أول دينار عربي (695م) واستقرار مؤسسات الدولة الإسلامية الأموية على يدي عبد الملك بن مروان.
كل هذه الأمجاد التى رسخت الإسلام ، ووطدت أركانه ، يمر عليها أغلب مؤرخينا مر الكرام ، في حين تطفو على سطح كتبهم ، ثورة المختار الثقفي بالعراق ( 685م ) ، وقصص استبداد الحجاج بن يوسف .
وهنا أيضاً ينجح التحريف التاريخي والأيديولوجي ، في إسدال الحجب السميكة على انتصارات الأمة ، بواسطة إبراز سلوك الأفراد . أي أن التاريخ الأكبر يضيع في دوامة التاريخ الأصغر.
وإن الذي يروم دراسة نهاية القرن الأول ، وبداية القرن الثاني للهجرة ( بداية وأواسط الثامن المسيحي ) ليصطدم ، بأن أخبار الوليد بن عبد الملك بن مروان ، وحاشيته ، وقصره ، تنشر سحاباً سميكاً على أحداث جليلة عملاقة منها فتح قتيبة بن مسلم لبخارى وسمرقند ، ومد السيادة الإسلامية على آسيا الوسطى (705م)، وإتمام الفتح الإسلامي لشمالي أفريقيا ، وأول نزول للمسلمين بإسبانيا في حملة طريف (710م) ، ثم فتح الأندلس ، وبداية أذكى وأثرى حضارة في البحر الأبيض المتوسط على يد طارق بن زياد (711م)، وكذلك بداية الفتوح المسلمة في فرنسا ذاتها ( 714م ) وغزو العرب للشبونة ( 716م ).
ثم تمضي في حب اطلاعك على قمة بني أمية ، في انتشار الحضارة الإسلامية ، فيهولك ما تعرض له هذا الزمن المجيد الأبي ، من طمس ، فتطفوا على سطح الكتب ، مغامرات يزيد بن عبد الملك ، وحكايات هشام بن عبد الملك التي يعوز معظمها التحقيق العلمي ، بينما تغرق في قاع التناسي المتعمد أعمال عظمى غيرت مجرى التاريخ ، مثل فتح نربونة بجنوبي فرنسا (719م)، ثم إن مجداً أثيلاً مثل بسط السلطان الإسلامي على كامل جنوب فرنسا ، لمدة ربع قرن، يندثر تماماً لكي تنفرد منه بالتعريف معركة بلاط الشهداء ، التي تواجه فيها عبد الرحمن الغافقي ، وشارل مارتال ، بسهول مدينة (بواتي) في قلب فرنسا (732 م) ، كما تندثر مناقب الدولة الأموية في دفع حركة التاريخ والحضارة باتجاه الحق والعدل ، لتنقل لنا كتب الرواة أخبار الشاعر عمر بن أبي ربيعة ، والوصلات الغنائية لمعبد ، والغريض ، وابن سريج ، وابن عائشة ، والأبجر.
أما إذا ولجنا باب الدولة العباسية منذ قيامها سنة (750م) فستندهش لتزاحم أخبار الصراع بين السنة والشيعة مع أنباء اضطهاد الفكر إلى جانب انتعاش الثورات ، وكأنما توحي إليك كتب الأدب والتاريخ بأن حضارة الإسلام تفردت بهذه الظواهر البشرية ، دون سواها من الحضارات ، بينما تشير وقائع الماضي الإنساني منذ فجر التاريخ ، إلى أن هذه سنة الله في خلقه ، وأن الإسلام جاء ليحد من نوازع الشر وغرائز الضعف ومكامن الجور ، لا ليعلن أن الأرض أصبحت جنة ، ولا ليقول : إن المسلمين أصبحوا ملائكة.
إن السر المختوم في القرآن هو أن نعتبر بالماضي وأن نتعظ بالقرون الخوالي ، وأن نتدبر حركة التاريخ، ونشوء الحضارات ، ونتأمل الأسباب ، ونربط بينها وبين النتائج . ولذلك نؤمل أن نعتمد التاريخ الصحيح للحضارة الإسلامية ، لا أن نعتمد التاريخ المحرف ، الذي وصلنا أغلبه عن طريق رواة الأدب ، وهم صناع أساطير ، ومثل من يأخذ عنهم اليوم ، كمثل من سيأخذ بعد ألف سنة عن أجهزة إعلام الغرب الراهنة لدراسة الإسلام في القرن العشرين . ومن تلك المرحلة العباسية ، خذ مثال غياب الغزوات الصيفية لبلاد الروم ، بعد تأسيس مدينة بغداد ، من كتب التاريخ الأدبي ، وتعويض هذه الأحداث الجسام ، بأخبار المغنية دنانير ( من 766 إلى 780م ) .. وخذ مثال طغيان التصادم بين الفكر الإسلامي الحر والدولة العباسية ، على المنعرج الثقافي الحاسم المتمثل في حركة إعادة إحياء الفكر اليوناني ، وتعريب أمهات كتب الفلسفة والعلوم الإغريقية ، ومن ثم إثراء الثقافة الإسلامية وقيامها بدور ريادة الثقافة الإنسانية من ( 800م إلى 850م ) أي من نكبة البرامكة على يد هارون الرشيد إلى نكبة القاضي أحمد بن أبي داوود على يد المتوكل.
ونحن إذا واصلنا هذا الجرد المختزل لتاريخ الحضارة الإسلامية ، فمررنا إلى الدولة الزيدية بجنوب بحر قزوين ، ثم باليمن ، وإلى الدولة الصفارية بشرقي فارس ، وإلى الدولة الطولونية في مصر ، والدولة الطاهرية بفارس ، ثم الدول المتعاقبة بالأندلس ، بإماراته المتناحرة ، ثم عددنا الثورات المتلاحقة ، التي تعز عن الحصر ومنها ثورة الزنج ، وثورة القرامطة ، لو قمنا بعمل كهذا ، لما كفانا جبل من الورق ونهر من المداد ، ولكننا أردنا بعرض أمثلة من القرون الأولى لانتشار الإسلام ، لندلل على أن هناك تاريخاً كبيراً ، وتاريخاً صغيراً لحضارة الإسلام . تاريخ أكبر صنعته الأمة في مسارها الواثق نحو الفتوح والتوسع ، وتأليف القلوب ، وتاريخ أصغر ، صنعه رجال بعينهم . فتشكل التاريخ الأكبر على مستوى الإسلام ، وإرادة الله سبحانه في تعمير الأرض ، وإنشاء المصالح ، وإقامة العدل ، في حين تشكل التاريخ الأصغر على مستوى القصور والبلاطات ، ولذلك اتجهت إليه أضواء الكشف ، وتناولته ألسنة الرواة والقصاص ، وأقلام المبدعين ، وقصائد الشعراء ، ونفخت فيه الفطرة الشعبية بالتضخيم والتهويل حتى اختلط مع مرور الزمن ، وبعد المسافة ، ما هو تاريخ محض ، بما هو خيال محض ، وانطلت على أبناء جيلنا المسلم أغلب الروايات ، فلم يعودوا يرون في تاريخهم ، إلا ما ظهر منه ، أي تعاقب الفتن وتواصل المحن ، غافلين عما صنع عظمة هذه الحضارة ، أي عبقرية الأمة ، المتمثلة في إجماعها.
نحن بصدد عرض ما بيد الحضارة الإسلامية من عناصر القوة والمنعة ، وهي تدخل صراع حضارات معلن ، لا بصدد تقديم كشف عن مآثر الإسلام ، فهي والحمد لله كالشمس تضيئ العالم ، وتبعث فيه الحياة ، وتجدد لديه الأمل.
ولذلك ننتقل إلى استخلاص فكرتنا الأساسية التالية:
ماذا لو اعتبرنا أن تاريخ الإسلام الحقيقي ليس هو التاريخ الأصغر ، الذي يدور في فلك الأفراد من خلفاء وملوك ووزراء ، ولكنه التاريخ الأكبر الذي صنعه إجماع الأمة في ملاحمها الفتوحية بالأمس ، ويصنعه إجماع الأمة اليوم ، بمقاومة الدخلاء ، واستعادة الهوية ، واسترجاع الأصول؟
ماذا لو أعدنا النظر جذريا في مادة التاريخ ، فاعتززنا بالملحمة الفكرية وبالمغامرة الثقافية اللتين فجرتا عبقرية الأمة ، منذ فجر الإسلام إلى يوم الناس ، عوض أن نحصر تاريخ الحضارة الإسلامية في التاريخ الأصغر : تاريخ الإنسان الفرد باستبداده وقمعه وجبروته ، وضعفه وخيانته ، واستحلاله ما حرم الله ، عبر أحداث السياسة وتقلبات الملك؟
ثم ماذا لو اعتبرنا أنفسنا كمسلمين أمناء على رصيد الإجماع الإسلامي، وخزنة لذلك التراث العظيم، غير مسؤولين كأمة ، عن سلوك الأفراد مهما كانت مراتبهم ومهما علت مواقعهم؟
ونحن عندما ندعو لهذ الاتجاه لا نأتي ببدعة من عندنا ، بل نستخلصه من عبقرية الإسلام . فالإسلام هو دين الحضارة الإلهية ، أي ان عماد حضارتنا هو القرآن ، بما أنزل من تشريعات ، حدّت من تطرف الإنسان الفرد ، فعقلت يديه عن الطغيان بالضرورة ، ووضعت اجتهاده في كنف تلك التشريعات المنزلة .. وبعكس الإسلام ، كانت وما تزال الأمم غير المسلمة تعتمد على تشريعات بشرية فردية ، تحمل أسماء الملوك الذين وضعوها ، أو أوحوا بها لمن وضعها ..
يقول الدكتور أحمد حمد : ( عندما أراد حمورابي قبل الميلاد بعشرين قرناً ، أن يضع تشريعاً يسير الناس عليه في معاملاتهم ، جمع العلماء وأمرهم ، أن ينتهوا من وضع هذا التشريع في مدة حددها لهم .. ثم في عهد جوستنيان ، أي في النصف الأول من القرن السادس الميلادي ، صنع جوستنيان هذا الصنيع مع العلماء .. ثم في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي ، يأتي نابليون ليصنع هذا الصنيع كذلك مع العلماء .. وأدل دليل على ذلك ، أن هذه التشريعات التي صدرت بمجهود العلماء ، لا تنسب إليهم هم ، بل تنسب إلى هؤلاء الحكام ، فيقال : تشريع حمورابي ، وتشريع جوستنيان ، وتشريع نابليون .. ولم يحدث في أي عصر من العصور ، أن ينسب تشريع ما إلى حاكم من المسلمين ، فإن الشرع هو شرع الله ، والفقهاء إنما يجتهدون ثم يجمعون على ما يرضي الله من حكم ..
ولقد كان اهتمام الأمة بالعلماء ، وتعظيم شأنهم ، أن جعلوا اتفاق المذاهب على حكم في مسألة من المسائل إجماعاً ، يؤخذ به مأخذ الاتباع والالتزام ، فاتفاقهم حجة ، ونسبوا كل مذهب من هذه المذاهب إلى صاحبه لا إلى الحاكم الذي كان في عهده ، فقالوا : مذهب أبي حنيفة ، ومذهب مالك ، ومذهب الشافعي ، ومذهب أحمد بن حنبل ، بل إن الحاكم هو الذي ينسب إلى المذهب إذا مال إليه ، فيقال : هذا الحاكم حنفي ، والآخر كان شافعياً وهكذا .. ) .
نحن إذن بإزاء جوهر من جواهر الحضارة الإسلامية . فالإجماع هو المصدر الثالث للشريعة بعد القرآن والسنة ، وهو كما أسلفنا يعتمد اتفاق المسلمين أو أهل الحل والعقد منهم - حسب تعريف الغزالي، والرازي ، والآمدي - وهذا الجوهر الإسلامي ثابت من الثوابت عبر تاريخ الحضارة الإسلامية مهما اعتراه من خلل ، عندما استبد بعض الحكام ، فاضطهدوا بعض رجال الفكر والاجتهاد والصلاح . بل بالعكس ، إن تاريخ اضطهاد الأئمة والعلماء لعبرة لمن يعتبر ، إذا ما درسنا عاقبة الطغاة ، وكيف هبت ريحهم ، وانهار بنيانهم ، وزالت دولتهم ، وخسف الله سبحانه بهم الأرض ، وبقي فكر العلماء ، وإجماع المجتهدين ، آية من آيات الإسلام ، وحجة من حججه ، ونبراساً هادياً للأمة بالأمس واليوم وغداً.
فالرأي عندي أن تنطلق صحوة الإسلام المباركة من عملية إعادة قراءة تاريخ الإسلام ، فنغير جذرياً من اعتباره تسلسل الدول فحسب ، إلى اعتباره تسلسل المدارس الفكرية ، والمذاهب الثقافية على مدى القرون. فالمنظور التقليدي السائد اليوم في دراسة التاريخ ، هو المنظور الأوروبي الذي يضع الحدث السياسي في قمة قراءة التاريخ ، ولا يكون الحدث الفكري إلا ثانوياً أو فرعياً ، وهو منظور لعله ينفع في التاريخ الأوروبي ، لكنه منظور قاصر في التاريخ الإسلامي . فإذا كانت السياسة تحدد الفكر في أوروبا ، نظراً لأسباب تاريخية ، ودينية ، وجغرافية ، واجتماعية يطول شرحها ، فإن الفكر هو الذي يحدد السياسة في العالم الإسلامي ، حتى لو اصطدم ذلك الفكر بالبلاط .
ويجدر بنا إذا أن نعيد الاعتبار لتاريخ الأفكار في الإسلام ، ونتبنى من ماضينا ، ما تعاقب من علماء وفقهاء ، وأئمة ، ودعاة ، وحكماء ، لنتخذه موروثا شرعياً لجيلنا المسلم في القرن الحادي والعشرين ، منه نستمد طاقة الاجتهاد ، ورصيد المواجهة الحضارية ، وعليه نؤسس الصحوة المباركة .
وقد أخطأت كتب الأدب وتصانيف الرواة في حق الحضارة الإسلامية عندما أرخت للملوك وحاشياتهم ، وجيوشهم ، وفتنهم ، وصراعهم على سدة الحكم ، في حين أهملت تاريخ الفكر ، والمفكرين ، والمناظرات ، والمدارس الثقافية ، مقتصرين في أحيان كثيرة على الشعر والشعراء ، بسبب دوران الشعراء في فلك الملوك والخلفاء ، وتناولهم في المدح ، والهجاء ، لخصائص الملوك وأعدائهم ، وانقسام الشعراء في كل العصور إلى أحزاب تناصر هذا ، وتحط من قدر ذاك .
ثم إن الشعر بهذا المعنى لا يكون ديوان العرب ، بل المرايا المضللة ، والمحرفة ، لواقع العرب ، وبالتالي لحضارة الإسلام .
وإذا أخذنا مثلاً واحداً من أمثلة عديدة ، لتأكدنا من صحة هذا الرأي . فالكتب التي تناولت نهاية عهد المعتصم بالله ، وعهد الواثق ، وعهد المتوكل ، وبداية عهد ابنه المنتصر ، تكاد تنحصر في ذكر الصراع الدموي داخل الأسرة الحاكمة ، وما صاحبه من مؤمرات القصر المتلاحقة ، دون التطرق الكافي إلى التدخل المكثف بين قضايا الحكم ، وقضايا الفكر في ذلك الجزء من القرن التاسع الميلادي .. فمنذ إنهاء محنة خلق القرآن ، ازدهرت المدرسة العلمية التطبيقية على يدي العالم الرياضي الخوارزمي ، وتنامي علم الجغرافيا على يدي ابن خرداذبة صاحب كتاب ( المسالك والممالك ) ، وتشكلت المدرسة الفكرية التي أسميها بالموسوعية ، على يدي الجاحظ بكتب الحيوان ، والبيان والتبيين ، والبخلاء ، والرسائل المعروفة ، وجاءت مساهمات عبد الله بن المقفع ، في الفكر السياسي ، بكتب كليلة ودمنة ، والأدب الكبير ، والأدب الصغير ، ورسالة الصحابة .. ثم ازدهر الفتح الإسلامي ، حتى بلغ روما ، وكاد يدخلها المسلمون ( 846م ) ، ووضع الإسلام يده على جزء كبير من بيزنظة .
ونحن نشعر بمزيج من المرارة ، والانكسار ، حينما نجد أن كتب السير الأدبية التي تحدثت عن هذه المرحلة الثرية الحاسمة من تاريخ الإسلام ، إنما اكتفت بتقديم المسرح البلاطي والأدبي - عادة الشعري والغنائي - ولم تفلح في رسم خارطة العمران البشري الإسلامي ، في عهود أربعة ملوك مع الامتدادات السياسية والمعرفية ، والروحية ، والفلسفية ، التي تساعد على دراستها والاعتبار بخصائصها . وإذا كان هذا حال كتب وضعها معاصرون لتلك المرحلة ، مثل كتاب ( طبقات فحول الشعراء ) ، لمحمد بن سلام الجمحي ، فما عسى يكون حال كتب جاءت بعد تلك المرحلة بعشرات بل ومئات السنين ، مثل كتاب الفهرست لابن النديم ( 988م ) ، أو كتاب زهر الآداب للحصري القيرواني ( 1022م ) ، أو كتاب طوق الحمامة لابن حزم ( 1027م ) ، إلى آخر الكتب الأدبية والتصنيفية المعروفة ، التي جاءت بعدها ، وشكلت - مع الأسف - مراجع أساسية لدراسة الحضارة الإسلامية , وخاصة بأقلام المستشرقين ، وتلاميذهم العرب . فدرج المؤرخون المسلمون وغير المسلمين - وبعضهم عن حسن نية - على استقاء مراجعهم من الكتب الأدبية ، وأغلبها مكتوب في بلاطات الملوك ، والأمراء ، بقصد تسلية ذوي النفوذ ، وأصحاب السلطان ، لا بقصد دراسة التاريخ والاعتبار به . فهذه الكتب ذات قيمة فنية متميزة ، ولكنها تاريخياً لا تعدو أن تكون أجزاءاً ملحقة بكتاب ألف ليلة وليلة.
وهذا الخطأ الفادح ، ليس مقصوراً على القدماء ، بل إن المعاصرين يرتكبونه ، ولكن عن سوء نية ، وخبث مقصد . فإنك لو قرأت كتاب ( الخلافة الإسلامية ) للمستشار محمد سعيد العشماوي ، لعثرت في الهوامش على أغلب التصانيف الأدبية المذكورة ، كمراجع أساسية لدراسة الخلافة الإسلامية . وفي هذه الحالة كما في غيرها ، فإن المطلوب إثباته _ أيديولوجياً - هو بطلان الخلافة الإسلامية ، ودموية الماضي الإسلامي ، وبالطبع اقتناع المسلمين بأنه ليس بالإمكان خير مما كان ، وأنه محكوم علينا بالتبعية لقوالب الغرب ، وأشكال نظامه ، وسائر شؤون حياته ، حتى نكون ( مجتمعات مدنية ) ، وشعوباً محبة للسلام)!
ونحن لن نكون في واقع الأمر سوى أمم مغلوبة ، تابعة ، لا كبرياء لديها ، ولا ذمة ، ولا سيادة . وقضية المستشار العشماوي ، تتجاوز مجرد إبداء الرأي ، إلى كونها إسهاماً في صنع الهزيمة الحضارية للإسلام ، بأيدي الذي أسهموا في هزيمته السياسية ، والعسكرية ، منذ 1967م تحت شعار القومية العربية.