الحمد لله ، الذي أنزل القرآن ، مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ، ومهيمناً عليه ، وجعله للناس شرعة، ومنهاجاً ، واعتبر العدول عن منهجه ، والالتزام بحكمه ، عدولاً عن الحق ، ووقوعاً في الهوى والضلال، وحذر الرسول صلي الله عليه و سلم ، والسائرين على طريق الاقتداء والتأسي ، من الفتنة التي يكون بها العدول عن بعض ما أنزل الله ، بقوله: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في مآءاتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ، وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك )(المائدة:48-49) ، وذلك أن العدول عن بعض المنهج ، عدول عن الكل .. كما أن التعديل في بعض جوانب المنهج ، هو عدول في حقيقة الأمر ، وسقوط في علل التدين ، التي وقعت بها الأمم الماضية ، من الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه الآخر ، وما لحق بها بسبب ذلك ، من الخزي والسقوط في الدنيا ، والعذاب الأليم في الآخرة ، قال تعالى : (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب .. )( البقرة : 85) .
ولقد اعتبر الله حال الذين جعلوا القرآن ( الشرعة والمنهاج ) تفاريق وأجزاء ، يؤخذ بعضها ، ويترك بعض - هؤلاء الذين جعلوا القرآن عضين - كحال المقتسمين الذين سبقوهم من الأمم السابقة ، فافسدوا على الأمة منهجيتها القرآنية ، وأوقعوها في الهوى والضلال ، والمعاصي ، والإصابات ، التي تعاني الأمة من آثارها اليوم ، أو التي تشكل أزمتها الحقيقية ، وتتسبب فيما يقع عليها من العقوبات ، وما يمارس عليها من الفتن ، والمساومات من (الآخر) لإخراجها عن بعض ما أنزل الله عليها ، قال تعالى
كما أنزلنا على المقتسمين ، الذين جعلوا القرآن عضين ، فوربك لنسئلنهم أجمعين ، عما كانوا يعملون )( الحجر:90-93). والصلاة والسلام على الرسول القدوة ، الذي أصّل المنهج الإلهي ، وبيّنه ، وجسّده ، في واقع الناس ، في ضوء هدايات الوحي الأعلى ، ومن خلال عزمات البشر ، واستطاعتهم ، وتركنا على المحجة البيضاء ، ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها إلا هالك ، متمثلاً قوله تعالى: (قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين )( يوسف : 108).
وقوله تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ). (الأنعام : 153) ، فوضع بسنته ، وسيرته ، منهج الوصول إلى التمكين في الأرض ، وتحقيق مهمة الاستخلاف الإنساني ، والعمران البشري ، في الدنيا ، والفوز والنجاة في الآخرة ، ومثل لسبيله هذا بخط مستقيم واضح ، ودعا لاتباعه على بصيرة ، ومثل للمناهج الأخرى ، من على يمينه وشماله ، بخطوط متعرجة ، يقف على رأس كل منها شيطان ، يغري باتباعها .
وبعد :
فهذا كتاب الأمة الثالث والأربعون : (المنهج النبوي والتغيير الحضاري) ، للأستاذ برغوث عبد العزيز بن المبارك ، في سلسلة (كتاب الأمة) التي يصدرها مركز البحوث والدراسات ، بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ، في دولة قطر ، مساهمة في استرداد شخصية المسلم المعاصر ، وتحقيق الوقاية الفكرية ، والحصانة الثقافية ، وإعادة بناء المرجعية الشرعية ، وتشكيل مركز الرؤية ، في ضوء هدايات ومعارف الوحي ، وتجارب ومكتسبات العقل ، وإعادة بناء الوعي ، بالمنهج النبوي في التغيير ، والتحويل الثقافي ، وتبيّن الأسباب ، التي حالت دون منهج النبوة ، وحسن التعامل معه ، وامتلاك القدرة على إنتاج النماذج المأمولة ، التي تحقق خلود المنهج ، القادرة على حمل أمانة الاستخلاف ، والعمران ، وإدامة البحث والنظر ، في ظروف وشروط ميلاد المجتمع الأول القدوة ، مجتمع خير القرون ، واستيعاب جميع المراحل التي مر بها ، ووسائل توفيرها ، للإفادة منها في عمليات النهوض ، وتجاوز الواقع ، وردم فجوة التخلف ، من أجل أن يستأنف المسلم رسالته ، ويقوم بالدور الذي ناطه الله به ، في إلحاق الرحمة بالناس ، مستثمراً إمكاناته الروحية ، والذهنية ، والمادية كلها ، ومنطلقاً من ذاتيته الخاصة ، ومرجعيته الشرعية ، على طريق النهوض ، وتحقيق الإرادة ، والإفادة من الإمكان الحضاري ، وفك قيود التحكم ، والارتهان الثقافي ، ومعالجة أسباب التقليد الجماعي والتخاذل الفكري .
وقد تكون الحاجة اليوم ، أشد من أي وقت مضى ، وقد اشتدت الفتن ، وكثر الغثاء والادعاء الثقافي ، وشاع مناخ التضليل والضلال ، وتطبيع الهزيمة ، وتقطيع الرؤية الإسلامية ، لإيجاد المسوغات للسقوط الحضاري ، والفلسفات لتكريس الهزائم على الأصعدة المتعددة .. قد تكون الحاجة اليوم ، أشد من أي وقت مضى ، إلى اللجوء إلى المنهج النبوي ، والاحتماء والتشبث به ، والعض عليه بالنواجذ ، خوفاً من الاقتلاع والضياع ، ومن ثمّ محاولة استقرائه بوعي وإحاطة ، وقراءة الواقع ، والحال الذي صار إليه ، والتعرف علىأسبابه ، ومحاولة تحديد المكان والموقع المناسب ، الذي يمكن أن يوضع فيه هذا الواقع ، من خلال المنهج النبوي في التغيير ، ومسيرة السيرة النبوية ، من خلال استيعاب المراحل كلها ، لتكون كل مرحلة أنموذجاً ومحل اقتداء للمرحلة التي تماثلها في واقع الأمة ، ابتداءاً من مرحلة الاستضعاف ، والاحتفاظ بالإيمان في القلب ، والاقتصار على كف اليد ، وإقامة الصلاة ، حتى تتوفر الإمكانات ، ويحضر الواقع ، وانتهاءاً بمرحلة التمكين في الأرض ، والدفاع عن إنسانية الإنسان ، وتحقيق حرية اختياره ، والحيلولة دون افتتانه .. أو إبتداءاً من مرحلة : (اقرأ ) كمدخل وسبيل إلى التغيير ، وانتهاءاً بمرحلة الاكتمال والكمال ، التي يشير إليها قوله تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً )(المائدة : 3) .
ذلك أن المنهج النبوي في التغيير ، والبناء الحضاري ، وسيرة الرسول صلي الله عليه و سلم في التعامل مع الواقع ، قد استوعب ، ومر بالحالات كلها ، التي يمكن أن تعرض لها المجتمعات البشرية بشكل عام ، والإسلامية بشكل خاص ، نهوضاً وسقوطاً وحركة وركوداً ، وامتلك الحلول والإجابات الكاملة ، لأصول المشكلات الإنسانية والاجتماعية ، وكيفيات التعامل معها ، وإلا كيف استحق أن يكون خالداً ، وأن يكون محل الأسوة والاقتداء؟!
لذلك فمن الأهمية بمكان - ونحن بسبيل معاودة النهوض - امتلاك القدرة على الوعي بالمنهج النبوي في التغيير والبناء الحضاري ، وإدراك مراحله بدقة ، ومقاصده في كل مرحلة ، ومرونته في التعامل مع الواقع ، في ضوء تلك المقاصد ، أمراً ونهياً ، وحظراً وإباحة ، ورخصة ، وعزيمة ، بحسب الظروف والأحوال ، والاستطاعات ، وتوفر الأسباب ، ومن ثم القدرة على تحقيق خلوده ، وذلك بتجريده من حدود وقيود الزمان والمكان ، وتوليد الرؤى ، والأحكام الشرعية ، والحلول النبوية ، للحالات ، مع مراعاة الأعمار التي يمر بها المجتمع ، وتنزيل هذه الحلول على الواقع ، في ضوء ظروفه ، وامكاناته ، وموقعه من مسيرة المجتمع الأول وسيرته ، مع الأخذ بعين الاعتبار ، أن اعتماد المرحلية والتدرج لا يعني بحال من الأحوال تجزيء المنهج ، وتقطيعه ، بمقدار ما يعيني استصحاب المراحل كلها ، التي مر فيها المجتمع القدوة ، للوصول إلى مرحلة الاكتمال والكمال ، والإدراك الكامل لأبعاد حركة النهوض الشاملة ، ومستلزماتها ، من خلال المرحلة والموقع ، الذي يكون عليه المجتمع اليوم ، لتجيء هذه المرحلة في عمرها وموقعها ومكانها مستقبلاً ، لبنة في البناء الكامل المأمول.
إن العودة إلى بعض مراحل السيرة ، فيما قبل مرحلة الاكتمال والكمال ، للمجتمع القدوة ، ومحاولة الاستضاءة بها ، لحل المشكلات المشابهة ، من واقع المجتمع ، واستطاعته ، لا تعني هنا النكوص والتراجع ، بمقدار ما تعني المراجعة للواقع ، وظروفه ، واستطاعته ، ومحاولة تحضيره ، والنهوض به ، في ضوء الرؤية الشاملة ، لمسيرة مجتمع القدوة..
وفي ظني : أن الذين يشيعون ، ويدّعون أن أزمة الأمة المسلمة اليوم ، أو أزمة العمل الإسلامي ، هي أزمة منهج ، هكذا بدون تحديد واضح للمصطلحات ، وبيان ما هو المقصود بالمنهج ، الذي نعاني من غيابه ، أو أن غيابه هو سبب الأزمة ، يساهمون أيضاً في الغيبوبة والالتباس .. إن هذا الادعاء ، بهذه المجازفة والعمومية الشديدة ، يحمل من المخاطر والبلايا والطوام ، والتضليل الثقافي ، والإلغاء للانتماء ، والانتهاء إلى الارتماء ، واستدعاء (الآخر) ، أو بشكل أصح استدعاء منهاج (الآخر) ما لا يعلم مداه إلا الله سبحانه وتعالى ، سواء صدر عن حسن نية من بعض البسطاء ، الذين انتهت عقولهم إلى آذانهم ، والذين يقـْفـُون ما ليس لهم به علم - وما أعتقد أن مثل هذه القضايا الشائكة محلها البسطاء - أو من بعض المَكَرة ، الذين يحاولون التسلل إلى الداخل الإسلامي ، من خلال التدليس ، والتلبيس للمصطلحات ، والتأنيس والمقاربة لمصطلحات (الآخر) ، والإيهام بأن القضية قضية إبداع فكري ، ضمن القيم نفسها ، لتمرير طروحاتهم ، بينما الأمر في الحقيقة لا يخرج عن أن يكون بدعاً فكرية ، غريبة عن مرجعية هذه الأمة ، وبعيدة عن منهج وفهم الجيل الأول ، المشهود له بالأهلية ، ليكون هو وحده بفهمه ومسالكه محل الاقتداء.
وهنا قضية لابد من تحرير القول فيها ، ما أمكن ، وهي أننا إذا كنا نريد بالمنهج ، أنه بشكل عام هو : منهجية النظر والبحث ، وعلوم الطريق الموصلة إلى الهدف ، أو بتعبير آخر : أن المنهج هو طريق الوصول ، يصبح من الضروري ، أن نحدد ، ما هي الأهداف ، التي نريد الوصول إليها ابتداءاً ، ومن ثم ، ما هي الوسائل والأدوات والمعارف المطلوبة ، لتحقيق هذه الأهداف؟ مع ضرورة الانتباه إلى أهمية عدم المجافاة بين الوسائل المعتمدة ، في مشروعيتها والأهداف المرجوة.
فإن كان المنهج المقصود هو نظام مسيرة الحياة في هذه الدنيا ، والأهداف هي سعادة الإنسان ، وكرامته ، وحياته الطيبة ، في الدنيا والآخرة ، وما يتطلب ذلك من الوسائل التربوية ، والأوامر والنواهي ، فإن أي ادعاء بأن الأزمة التي نعاني منها ، أزمة منهج ، يمكن أن يخرج عن الملة - والعياذ بالله تعالى - لأن الله سبحانه وتعالى يقول: (فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحـق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ) (المائدة : 48) ، فالمقصود بالحكم بما أنزل الله ، المنهج الذي شرع الله التزامه .. والحكم الذي شرعه الله هنا ، لا يخص الجانب السياسي ، أو التشريعي ، أو الأخلاقي ، أو الاقتصادي ، أو التربوي ، وإنما يعني ذلك جميعه ، بكل ما يتطلب المنهج من منطلقات أساسية ، وأهداف مرحلية ، ونهائية واضحة ، ووسائل وأوامر ونواة ، وقيم ومعايير ثابتة ، ليست من وضع الإنسان .. وما يتطلب أيضاً من أنموذج تطبيقي لهذا المنهج ، أشبه ما يكون بوسيلة إيضاح معينة على تنزيل قيم المنهج على الواقع ، وتحويل فكره إلى فعل مجسد في حياة الناس ، أو هو كالمجسمات والنماذج ، والصور ، التي تبين الشكل ، الذي لابد أن تنتهي إليه الوسائل.
وهنا نقول : إن الأزمة التي نعاني منها ، ليست أزمة منهج ، وإنما أزمة فهم للمنهج ، وأزمة تعامل مع المنهج .. أزمة تنزيل للمنهج على الواقع ، وتقويمه به .. فالاسلام بمصدريه : الكتاب والسنة ، والسيرة كتنزيل عملي وأنموذج ، هو المنهج ، وأن المعايرة للواقع ، والتحديد للخلل ، إنما يكون في ضوء الكتاب ، والسنة ، والسيرة ، وأن أي معاودة للنهوض ، واستئناف السير ، مرهون بتقويم الواقع ، بمنهج الكتاب ، والسنة ، والسيرة .. فالإسلام هو المنهج ، وهو الصراط ، وهو السبيل ، وهو الحجة ، وهو موثق الاستمساك والتلقي ، والمعايرة ، واكتشاف الخلل ، وتحديد الأزمة ، أو هو بكلمة جامعة : الدين ، الذي يحكم تصرفات الإنسان ، أو يدين له الإنسان بتصرفاته ، ونشاطه ، لأن أي عدول عن هذا ، أو تعديل له - والتعديل هو عدول في الحقيقة ، عن بعض الجوانب ، كما أسلفنا - إنما يعني بالضرورة استدعاء مناهج ونظم معرفية ، ومسالك ومعايير (الآخر) وليس من (آخر) الآن ، سوى المنهج الغربي ، بوسائله ، وأدواته ، ونظامه المعرفي.
إن اعتماد المنهج الغربي ، في النظر ، والتحليل ، والدراسة ، سوف يؤدي بالضرورة أيضاً ، إلى أن يصبح الإسلام ، كتاباً ، وسنة ، وسيرة ، هو مادة التحليل ، ومحل وموضوع النظر ، وليس منهج النظر ، ومعيار التقويم .. ولا يغيب عنا هنا التذكير بالأبجديات الخاطئة في قراءة الإسلام ، من ماركسية ، ورأسمالية وعلمانية ، وكل المقاربات التي تتم وتملأ الساحة الثقافية اليوم ، حيث باتت ، مصطلحات (الآخر) هي أدوات ، ومحددات الفهم ، والقسمات الفكرية ، لأي باحث .. وهنا يبرز التناقض والضياع وتزييف الوعي ، أو التدليس ، عن وعي.
وحتى لو سلمنا بحسن النية - وما نظن ذلك حاصلاً في هذه المواطن الخطيرة - فإن فصل الأدوات المنهجية عن نظامها المعرفي ، ومرجعيتها الفكرية ، ومضمونها القيمي ، هو خلل منهجي ، وتفتيت للنظرية ، وتجزيء لها ، ومحاولة نقلها للتشغيل ، والتعامل مع نسق آخر.
ذلك أن الأدوات المستخدمة ، وعلوم طريق الوصول ، والتبصير بما يمكن أن يتحصل من إصابات في الطريق ، وكيفية الوقاية منها ، هو جزء منبثق من المنطلقات ، والقيم ، والنظرة الكلية الشمولية للأهداف ، وليست جزءاً منفصلاً محايداً ، قائماً بذاته.
ونخشى أن نقول : إن الذين يدّعون بأن الأزمة عندنا ، هي أزمة منهج ، متجاوزين في ذلك الصراط ، والشرعة ، والمنهاج ، والسبيل ، والدين ، الذي أنتج هذه الحضارة ، وتلك العلوم ، سوف يقودهم سعيهم إلى تبني واحتضان المنهج الغربي ، في النظر إلى القيم ، والأفكار ، والمجتمعات الإسلامية ، وحتى إلى إعطاء الكتاب والسنة والسيرة ، واعتبارها كسائر المواد التراثية الأخرى ، حتى لو أعلنوا خلاف ذلك .
وهنا تحفظ لابد من التوقف عنده قليلاً ، وهو أن التراث عند من يعّرفه بأنه اجتهاد ، وكسب بشري ، خارج دائرة الكتاب والسنة والسيرة ، قد يغيب عنه ، أنه أثناء فحصه واختباره ، وتقويمه ، ومحاكمته ، لابد من استخدام المنهج ، الذي تم إنتاج هذا التراث في ضوئه ، ومن ثم بيان فساد أو صواب التنزيل والتطبيق لهذا المنهج في الواقع ، لأن من العقم المنهجي ، والفساد الفكري ، محاكمة واقع حضارة وتراثها ، أو إنتاج حضارة ، بأصول ومناهج وأدوات معرفية لحضارة أخرى مغايرة ، في منهجها ، وقيمها ، ومنطلقاتها ، وأهدافها ، ووسائلها.
وقد يكون أحد الوجوه الخطيرة ، للأزمة الفكرية ، التي نعاني منها ، بسبب عجزنا عن التعامل مع المنهج الذي شرعه الله ، وبينته السنة ، ونزلته ، أو طبقته السيرة ، هو الادعاء بضرورة الاقتصار على النص القرآني ، في التقويم ، والمنهجية ، والمرجعية ، والمعايرة ، والعدول عن السنة والسيرة ، أو عن المنهج النبوي في البيان ، والتطبيق ، والتنزيل على الواقع ، أو تجاوزهما عملياً ، بحجة ظنية السنة ، وضعف المروريات ، من وجه ، أو بأن التنزيل على الواقع في فترة السيرة ، كان باجتهاد بشري ، محكوم بظروف الزمان والمكان والحاجات ، لا علاقة له بالنبوة والوحي ، وأن الرسول النبي صلي الله عليه و سلم الذي يبلغ رسالة ربه (القرآن) ، ويبيّن كيفية عبادته ، غير الرسول الحاكم (!!) فالمهمة الأولى هو مؤيد فيها بالوحي ، ومسدد به ، أما الثانية (السنة) فلا وحي فيها ، وإنما هو اجتهاد جاء مناسباً لعصر معين ، ليس بالضرورة ، أن يكون صالحاً لكل زمان ومكان ، وأن إلغاءه ، أو تجاوزه ، لا علاقة له بالدين ، أو التدين (!!) وهذه بدعة في التفكير ، خارجة عما أجمع عليه المسلمون في عصورهم المتطاولة ، ووسيلة ماكرة لعلمنة الإسلام ، ومحاصرة المنهج القرآني ، وإقصائه ، بمحاولة إلغاء سنة الرسول صلي الله عليه و سلم ، في التطبيق والبيان ، لكنها اليوم باسم الإسلام ، وهي لا تقل خطراً وأثراً عن الابتداع في العبادة .. إنها مروق من الدين ، كما يمرق السهم من الرقبة.
أما القول : بأن نص القرآن قطعي ، وإلهي ، ومطلق ، والادعاء بأن نص السنة في معظمه ظني ، وبشري ، ونسبي ، يمكن رده .. فهو ادعاء ساقط ، قرآنياً ، ومنهجياً ، وواقعياً ، وقد فند العلماء ذلك ، ولم يبقوا فيه استزادة لمستزيد ، ذلمك أن النص القرآني نفسه ، يعتمد السنة ، مصدراً للتشريع ، والمعرفة ، والأحكام ابتداءاً.
أما ظنية السنة ، من الناحية المنهجية ، فإن السنة محكومة بضوابط القرآن الكريم ، قطعي الثبوت ، بحيث لا يجوز لها أن تخرج على نصوصه ، أو تعارض مقاصده ، أو مرجعيته ، حتى في البيان ، الذي هو مهمتها ، وذلك بنص القرآن ، إلى درجة اعتبر معها العلماء ، أن من علامات الحديث الموضوع ، معارضته لصريح القرآن الكريم ، فالسنة ، على الرغم من ورود معظمها عن طريق خبر الآحاد ، إلا أنها موثّقة بضوابط ومرجعية القرآن ، قطعي الثبوت.
إضافة إلى أن هذه النصوص الظنية الدلالة ، تجسدت ، وتمثلت في واقع أمة ، كاملة ، مشهود لها بالخيرية، في مرحلة السيرة ، والخلافة الراشدة ، الأمر الذي يمنحها التواتر العملي ، أو السكوتي - إن صح التعبير - وهذا لم يتوفر لنص آخر غير نصوص السنة ، التي تضمنت المنهج النبوي ، اللهم عدا النص القرآني ، الذي ثبت بالتواتر ، الذي يفيد القطع ، وعلم اليقين ، وهذا التواتر من حيث المنهجية العملية ، يمنح السنة السياج الواقي ، ويجعل الظنية فيها ، معتمدة في التشريع ، والمعرفة ، والأحكام ، الأمر الذي لم يعان منه جيل الصحابة ، حيث لم تكن هذه الإشكالية مطروحة أصلاً.
ولابد أن نعترف أن بعضنا يعيش اليوم مرحلة الأرض الأجادب ، لكن بعضنا الآخر - مع الأسف - يعيش مرحلة الأرض القيعان ، التي أخبر عنها الرسول صلي الله عليه و سلم بقوله: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم ، كمثل غيث اصاب أرضاً ، فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس ، فشربوا ، وسقوا ، وزرعوا ، وأصاب منها طائفة أخرى ، إنما هي قيعان لا تمسك ماءاً ولا تنبت كلأ ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به ، فعلم وعلم .. ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ... ) (متفق عليه) .. حيث تتقدم عندنا وسائل الحفظ والنقل لقيم الكتاب والسنة ، لكن يصاحبنا العجز عن أن نستنبت منها الكلأ والعشب الكثير ، إلى جانب حفظ الماء ، فنكون من الطائفة الأولى . وقد يكون من المفيد هنا ، أن نورد ما روي عن عثمان وعبد الله بن مسعور وأبي رضي الله عنهم ، من أن رسول الله صلي الله عليه و سلم كان يقرئهم العشر ، فلا يتجاوزها إلى عشر أخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل ، فتعلموا العلم والعمل جميعاً (صحيح سنن أبي داود) ، وما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، أنه قال : كان الفاضل من أصحاب رسول الله صلي الله عليه و سلم في صدر هذه الأمة ، لا يحفظ من القرآن إلا سورة أو نحوها ، ورزقوا العمل بالقرآن ، وأن آخر هذه الأمة ، يقرأون القرآن ، منهم الصبي والأعمى ولا يرزقون العمل به (القرطبي 1/40) .
وحتى يكون الكلام واضحاً ، لابد أن نبيّن أن العجز المقصود هنا ، هو عدم القدرة على الإفادة من المنهج النبوي ، في مجال التغيير والبناء الحضاري ، وليس المقصود مجال الفقه التشريعي ، حيث خلف لنا العلماء والمجتهدون ثروة فقهية لا نظير لها ، من الناحية القانونية ، والثقافية ، والتشريعية ، والقضائية .
لذلك نقول : إن الأزمة الحقيقية التي نعاني منها ، أو الأزمة الفكرية ، هي أزمة فهم عملي ، وأزمة تعامل، مع قيم الكتاب والسنة ، وتحويلها إلى برامج ، من خلال مسيرة السيرة النبوية .. أو بكلمة مختصرة : أزمة تعامل مع معرفة الوحي بشكل عام ، أو استيعاب المنهج النبوي ، في البناء والتغيير ، سواء في ذلك من ينكرون وجود المنهج ، في الكتاب والسنة ابتداءاً ، ويعتبرون أن الأزمة اليوم ، أزمة منهج ، أو من يسلمون بوجود المنهج ، إلا أنهم عاجزون عن وضع مناهج فهم ، وتعامل ، من خلال القيم نفسها ، ونسقها المعرفي ، وتراثها الممتد ، الذي يشكل عقلها الجماعي ، وشخصيتها الحضارية التاريخية .. لذلك نراهم يتطاولون على التراث ، ويحكموا عليه ، من خلال تشكيلهم الثقافي ، بعيداً عن القيم المعيارية ، التي أنتجته ، وإنما من خلال قيم حضارات ، ومناهج معرفية ، وعقائد أخرى ، لذلك لا يخرج عملهم عن طحن الماء ، على الرغم من الجهد المبذول ، والمال المهدور ، دون أن تكون عندهم القدرة على إيجاد البديل ، أي بديل ، وقد يضطرهم سعيهم في النهاية ، بسبب فقر إنتاجهم - كما أسلفنا - إلى احتضان أشخاص ، قد يفتقرون لأدنى حد من المرجعيات الشرعية ، سواء في دراستهم الأكاديمية ، أو كسبهم الثقافي ، أوفي مسالكهم ، وإنما هم متخصصون ، بالمنهج الغربي ، ونظامه المعرفي ، وأدواته البحثية ، ويحاولون اليوم أن يجعلوا من الإسلام ، والنصوص الإسلامية ، في الكتاب والسنة ، محلاً للتحليل ، والدراسة ، وفق المناهج ، والأنظمة المعرفية : الخارجة عن نسقه ، وقد يلحقون بأعمالهم أي شعار إسلامي ، لتمريرها وتسويقها في عالم المسلمين .. إنهم يجرأون على الفتوى ، في المعرفة ، ويبتدعون في الفكر ، وقد لا يحسنون معرفة فرائض الوضوء ، وأحكام الحلال والحرام ، التي يجب أن تعرف من الدين بالضرورة ، وقد لا يستطيع الكثير منهم أن يقيم لسانه بآية ، أو حديث ، وغاية عملهم اقتطاع بعض النصوص الإسلامية ، وإعمال أدوات المناهج الغربية في فهمها ، وإعادة تفصيلها .. فكيف والحال هذه ستكون النواتج الفكرية والثقافية ، خاصة إذا علمنا أن الأدوات المعرفية ، ووسائل البحث ، ومناهج الفهم والتفكير ، ليس آليات محايدة ، وإنما هي ثمرة لخلفيات عقائدية ، ومرجعيات حضارية ، لا تخرج عن أن تكون جزءاً منها ؟
إنها المرحلة الجديدة للاستلاب الحضاري ، والاختراق الثقافي ، التي يفترض لها أن تكون أكثر قبولاً في عالم المسلمين ، بعد أن سقطت الطروحات السابقة للإسلام ، المعنونة بالمصطلحات الغربية أو الشرقية ، لإيجاد غطاء تراثي لتسللها إلى الفكر الإسلامي.
ونخشى أن نقول : إن هذ المسعى اليوم يعتبر من أخطر البدع الفكرية الخفية ، التي يجب التنبه لها ، والتحصين منها ، لأنها لا تقل خطراً عن البدع في العبادات ، التي نهض فقهاء السلف والأتّباع ، لمحاصرتها والتحصين منها ، وهزيمتها بالسنة.
هذه البدع الفكرية ، التي دخلت علينا باسم وضع الحلول لأزماتنا ومشكلاتنا ، وحاولت اصطيادنا في حالة المعاناة ، نرى أنها خلفت لنا تراكم الأزمات ، بدل أن تضع الحلول .. وقد يكون المطلوب اليوم : أن تصبح مواجهتها من الأولويات ، وهزيمتها إنما تكون بوعي المنهج النبوي ، والتحصن بمعرفة الوحي ، في الكتاب والسنة ، والاجتهاد في إبداع الأدوات المعرفية ، في إطار النسق الإسلامي ، وتصوراته عن الحياة ، ومرجعيته الشرعية.
وقد تكون الإشكالية الحقيقية ، في النظر للمنهج النبوي ، في التغيير والبناء الحضاري ، تكمن في استيعاب مسيرة هذا المنهج ، بمراحله المختلفة ، ومحطاته الكبرى ، والإفادة منه في تحديد وفهم الواقع ، ووضعه في الموقع المناسب من هذه المسيرة ، وامتلاك الفقه والقدرة ، في كل مرحلة ، على ضبط النسب ، وإعادة ترتيب الأولويات ، في ضوء الحال ، وتطور المراحل ، واستصحاب المقاصد ، الأمر الذي يتطلب هضم الجزئيات في شعب المعرفة المختلفة ، وإعادة تجنيسها ، كمعطيات للمنهج النبوي المعرفي ، في كل مرحلة.
نعود إلى القول : بأن المنهج النبوي في التغيير ، والبناء الحضاري ، إذا لم يُدرك بمراحله وأبعاده ، ويميّز بين ثوابته ، ومتغيراته ، ومراحله ، وتدرك الظروف والشروط ، التي توفرت لكل مرحلة ، يمكن أن ينقلب إلى معوق ، بسبب سوء الفهم ، ومن ثم سوء التطبيق ، بدل أن يكون دافعاً للنهوض .. لذلك فالأمر لا يجوز أن يبقى خاضعاً لرؤية فردية ، تدعي الإحاطة بكل شعب المعرفة ، وإنما لابد له من دراسات متخصصة ، بشعب المعرفة المتنوعة ، شريطة أن تكون متحصنة بالمرجعية الشرعية الكافية ، للتمييز بين ما هو من الوسائل ، وما هو من الأهداف ، وما هو من المباديء ، وما هو من البرامج ، وما هو من القيم المعيارية ، وما هو من الاجتهاد الخاضع للتقويم ، لتشكيل رؤية جماعية لكل عصر ، بحسب مشكلاته وظروفه ، وإمكاناته ، وقضاياه ، وموقعه من مسيرة النبوة.
وقد يكون الكثير من مشكلاتنا الفكرية والمنهجية والنهضوية - إن صح التعبير - نابعاً من وجود متخصصين بشعب المعرفة ، لكنهم يفتقدون المرجعية الشرعية ، أو يفتقدون لمعرفة الوحي بشكل أعم سواءاً منهم من تخصصوا في الغرب ، أو تخرجوا على أيديهم في مدارس ومعاهد وجامعات العالم الإسلامي ، المرتهنة للنظام المعرفي الغربي في المرجع ، والمنهج ، والكتاب ، والمدرس ، أو من هم من المتحمسين للقضية الإسلامية ، بعيداً عن أي معرفة أو تخصص.
والمجتمع الإسلامي الأول ، هو مجتمع الأنموذج ، ومعيار الاقتداء العملي ، ليس في مرحلة الكمال والاكتمال فقط ، وإنما في المراحل كلها التي مر بها ، فكل مرحلة تعتبر قدوة وأنموذجاً لما يشابهها ويقابلها من الأحوال التي يعيشها ويتقلب فيها المجتمع المسلم .. فالمجتمع الأول بالنسبة للمسلم ، يشكل المرجعية التطبيقية .. كما أن القيم في الكتاب والسنة ، تشكل المرجعية الشرعية والفكرية ، وقد تحقق له ذلك دون غيره ، بسبب حراسة الوحي ، والرؤية الراشدية ، بعد توقف الوحي ، المشهود لها من الموحى إليه صلي الله عليه و سلم ، الذي اعتمدها في المرجعية والاقتداء فقال : (.. فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، وتمسكوا بها ، وعضوا عليها بالنواجذ ) (رواه أحمد) .
وهنا قضية لابد من الإشارة إليها في الحقيقة : وهي أن المجتمع الأول ، مجتمع القدوة ، والمثال ، والأنموذج ، والمرجعية ، ليس هو نهاية المطاف للحياة الإسلامية ، إنما هو نهاية المطاف للبناء الأنموذجي ، إذ أن المجتمعات الإسلامية ، الممتدة تاريخياً ، كما هو الواقع ، والتاريخ ، والسنن الاجتماعية ، سوف تمر بسقوط ، ونهوض ، وقوة ، وضعف ، ومرض ، وصحة ، بحسب أقدار التدين المتفاوتة ، فهي ليست نسخة مكررة عن المجتمع الأول ، مهما حاولت المقاربة والتأسي ، ولكنها لا تخرج في كل حالاتها ، التي تمر بها ، عن المشابهة ، مع مجتمع القدوة ، في المراحل التي مر بها.
وقد يكون من المفيد التأكيد هنا ، أننا مهما حاولنا الاقتراب من مجتمع القدوة ، تبقى لمجتمع القدوة الذي ربي على عين النبوة ، خصوصية في كونه قدوة دون سائر الحالات المماثلة الممتدة على طول التاريخ الإسلامي ، فهي تجارب تفيد العبرة ، ولا يمكن أن تتحول إلى أنموذج أو مصدر للتشريع والتلقي.
والفقه المطلوب اليوم : كيف يشكل المنهج النبوي ، والرؤية الراشدية - قيماً وبرامج ، فكراً وفعلاً - بمراحلها المتنوعة ، مرجعية ، وقدوة للمجتمعات الإسلامية ، ضمن الحالات التي تمر بها؟ وكيف يمكن أن يتحقق الاقتداء والإفادة ، من المنهج ؟ هذه هي القضية المطلوبة بشدة ، الغائبة غياباً مذهلاً.
نحن عندما ندعو لاستيعاب المنهج النبوي في التغيير والبناء الحضاري ،واستيعاب الواقع ، ومن ثم وضع الواقع في مرحلته المناسبة من مسيرة النبوة ، أو من المنهج النبوي، حتى نحقق الاقتداء في عملية التغيير ، وكيفية التعامل مع الواقع ، وتغييره ، والارتقاء به ، أو تقويمه بمنهج النبوة ، في ضوء عطاء المنهج نفسه ، أو عطاء المرحلة المشابهة لواقع الحال، لا نعني بذلك عملية التقطيع ، والانتقاء الفقهي ، كما اننا لا نعني إيجاد المسوغات الشرعية ، أو التستر على هذا الواقع بفقه حيل ، أو فقه مخارج ، وإنما الذي نريد أن نوضحه: أن القضية قضية اجتهاد فكري ، أو رؤية منهجية في كيفية إعادة البناء ، في ضوء المنهج النبوي ، ترتكز إلى فقه المقاصد ، الذي كان محور التغيير في كل مرحلة ، ومرتكز ومنطلق آلياته ، ووسائله .. لذلك جاء تأكدينا باستمرار ، ومهما كانت مواصفات وشروط المرحلة ، على ضرورة استصحاب الرؤية الشاملة.
وأعتقد أن الجهود ، التي بذلت لحماية السنة ، والسيرة وحفظها ، ومناهج وضوابط الحفظ ، والنقل الثقافي ، ومعايير الجرح ، والتعديل ، لم تتوفر بعد القرآن الكريم ، لأي نص تاريخي ، أو وثائقي ، أو ديني على الإطلاق ، ولعل هذا من لوازم وخصائص الخلود .. إن هذه الجهود العلمية العظيمة التي توفرت لحماية بيان القرآن ، وكيفيات التعامل معه ، فهماً وتنزيلاً على الواقع ، والتي تحققت من خلال عزمات البشر ، الذين يمثلون أوعية الحفظ وأدواته ، جاءت مصداقاً لقوله تعالى: (إن علينا جمعه وقرءانه * فإذا قرأنه فاتبع قرءانه * ثم إن علينا بيانه ) (القيامة : 17 - 19) .
والحقيقة التي قد يكون ذكرها هنا من الأهمية بمكان ، أنه أثناء العمل مع المنهج النبوي ، لابد من استصحاب الرؤية الشاملة للمنهج ، حتى ولو كان التنزيل ، والتطبيق لبعضه ، بحسب النوازل ، وظروف الحال ، والاستطاعات ، التي تقتضي التركيز على بعض الجوانب في مرحلة معينة ، لمعالجة الخلل ، دون الجوانب الأخرى .
ذلك أن غياب الرؤية الشاملة للمنهج النبوي ، وعدم الفقه مقاصد التعامل مع الحالات المتنوعة ، من الواقع ، وأسباب التركيز عليها ، أدى ببعض المفكرين إلى اختلال في شمولية الرؤية ، وضبط النسب ، وبروز فرق خارجة ، ونتوءات فكرية ، لا تتفق مع توازن وشمولية المنهج النبوي .. أخذت بعض الجزئيات وضخمتها ، وحاولت المرابطة من ورائها ، وتعميمها على المنهج كله ، فاضطربت الأولويات ، واهتزت النسب ، وظهرت الثنائيات المتناقضة ، والتعسف في التفسير والتأويل المذهبي ، لا المنهجي ، وأصبحت القواعد والأصول المذهبية ، كلامية كانت أو فقهية ، هي المعيار لتفسير النص والتحكم بمقاصده ، وهو ما لم يعرفه تنزيل الإسلام الأنموذجي في خير القرون .
ولا شك عندي أن عملية التنزيل للمنهج النبوي على الواقع ، أو الفقه التطبيقي ، وتحويل القيم والمباديء ، إلى برامج ، إذا لم تترافق بالرؤية الشاملة ، والضوابط الصارمة ، واليقظة المستمرة ، قد يؤدي إلى لون من التكيف مع الواقع ، دون القدرة على تكييفه ، وفق القيم ، بسبب الإلف له ، والقبول به ، نتيجة للتوارث الاجتماعي ، ومن ثم الدفاع عنه ، واعتماده كمقياس للمعايرة .. أو بتعبير آخر : نتيجة لإلف الواقع وحالة الركود ، التي يفرضها ، وسهولة التعامل معه ، يصبح تقليداً يصعب تغييره ، ومن ثم يعتمد هذا التقليد ، أو هذه التقاليد ، لتصبح قيماً ، ومعايير ، تحل محل المنهج ، والقيم والتعاليم .. وبدل أن تُـقوّم التقاليد بالقيم ، والتعاليم ، وتكون التقاليد هي مادة البحث ، والتحليل ، تصبح هي معايير البحث ، والتحليل ، فيصاب المجتمع بالركود والاستنقاع الحضاري ، ويصل إلى مرحلة ذهاب العلم ، وإن بقيت مصادره التي اخبر عنها الرسول صلي الله عليه و سلم .. فعن الإمام أحمد رحمه الله ، قال : ذكر النبي صلي الله عليه و سلم شيئاً ، فقال : (وذاك عند ذهاب العلم ) .. قلنا : يا رسول الله ، كيف يذهب العلم ، ونحن قرأنا القرآن ، ونقرئه أبناءنا ، وأبناؤنا يقرئونه أبناءهم ؟ فقال : ( ثكلتك أمك يا ابن لبيد ، إن كنت لأراك من أفقه رجل في المدينة ، أو ليست هذه اليهود والنصارى بأيديهم التوراة والإنجيل ، ولا ينتفعون مما فيها بشيء؟! ) (الحديث رواه أحمد في مسنده ، وابن ماجة في سننه ، باب ما جاء في ذهاب العلم ، وقال : هذا حديث حسن غريب) .
لذلك ، وحتى يحول المنهج النبوي في التغيير والبناء الحضاري ، دون هذا التوطين للتقاليد ، بسبب التوارث الاجتماعي - كما أسلفنا - شرع الدورات التجديدية ، التي اعتمدها كحراسات لسلامة المنهج واستمراره ، والتي تعني بعث الحياة للتعاليم والقيم من جديد ، وإعادة ترتيب تصويب المعادلة الاجتماعية .
فالتجديد هو العودة إلى الينابيع الأولى ، وإعادة التقويم بها ، وبذلك يتحقق الحفظ والاستمرار ، وديمومة العطاء ، للمنهج النبوي ، أو لمعرفة الوحي ، بشكل أعم ، ليصبح منهج النبوة ، أو معرفة الوحي بشكل أعم ، هي الإطار المرجعي ، والضابط المنهجي ، والمعيار للمراجعة المستمرة ، وإعاد تقويم الواقع ، قبل أن ينغلق على تقاليده ، التي يكرسها التوارث الاجتماعي ، لذلك قال الرسول صلي الله عليه و سلم : (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة عام ، من يجدد لها دينها )(رواه أبو داود في الملاحم) .
لقد جُعل التجديد تكليفاً ، ولم يقتصر على أن يكون إخباراً .. والتجديد - الذي هو في الحقيقة تقويم للواقع ، وتغيير له ، ومحاولة للعودة به إلى الينابيع الأولى ، بعد إدراك هذا الواقع في ضوء المنهج النبوي للتغيير ، أو بكلمة مختصرة : هو النظر في الواقع ، وتقويمه من خلال المنهج النبوي ، والنظر إلى المنهج النبوي ، وكيفيات التزامه ، والإفادة منه ، من خلال الواقع - هو لازم من لوازم الخاتمية ، حيث توقف التصويب من السماء ، فلابد من ممارسة عمليات التصويب والتقويم للواقع ، في ضوء مرجعية قيم السماء وبيانها النبوي.
ولعلي أرى أن في تسمية منهج الرسول صلي الله عليه و سلم في التغيير والبناء الحضاري ، بمصطلح السنة ، بعض ملامح الخلود ، والتجرد من ملابسات الزمان والمكان ، ذلك أن السنة هي: القانون المطرد الممتد ، الذي لا يقبل التحويل ، ولا التبديل ، فهي في مجال الأنفس كالقانون الطبيعي الكوني ، في إطراده وثباته ، في مجال الآفاق ، وإن كان محل الاستشهاد على ثبات السنن واطرادها ، غالباً ما ينصرف إلى السنن الكونية الآفاقية ، لسهولة إدراكها ، ووقوعها تحت الحواس ، وفي متناولها ، ولأن الزمن المطلوب لاستيعاب اطرادها ، وإدراك نتائجها ، هو في مقدور الإنسان ، وضمن عمره المفترض ، أما السنن النفسية والاجتماعية ، والتعرف على عواقبها ، فأمر بطيء ومديد ، إلى درجة قد يكون عمر جيل كله ، مقدمه لها ، إضافة إلى أنه قد تحول بعض العوائق ، أو تغيب بعض الشروط ، فتختل النتائج أو تتخلف ، فيتوهم الإنسان عدم الاطراد ، لذلك غالباً ما يتحدى القرآن في مجال السنن النفسية والاجتماعية ، بالعواقب ، التي هي آكد من النتائج عملياً.
فإذا سلمنا ، بأن السنة النبوية ، هي قانون مطرد في التغيير الاجتماعي ، والبناء الحضاري ، وأن الاطراد سمة لازمة لها ، كلما توفرت الظروف والشروط ، وانتفت العوائق ، وأن نهوض المجتمع الإسلامي من سقوطه اليوم ، مرهون باستعادة الأنموذج ، القدوة ، والمنهج في التغيير ، وأن توفير الظروف والشروط التي توفرت لميلاد المجتمع الأول ، أساس لمعاودة الإنتاج ، أدركنا مغزى قولة الإمام مالك رحمه الله : لا يصلح آخر هذه الأمة ، إلا بما صلح به أولها.
ولعل من الأمور الأساسية التي لابد من التنبه لها ، والتذكير بها هنا ، أن منهج الرسول القدوة صلي الله عليه و سلم في البناء والتغيير الحضاري ، هو منهج اللبنة والتدرج ، وتحضير المحل ، والأخذ بيد الناس إلى تحقيق المقاصد الإسلامية ، وتقويم سلوكهم بشرع الله ، شيئاً فشيئاً ، حتى وصل بهم ، إلى درجة الاكتمال والكمال ، في بناء المجتمع الأنموذج .. وهذا المنهج لم يقتصر على مرحلة النبوة الخاتمة ، وإنما هو منهج النبوة في التاريخ الإنساني ، ووسيلة الأنبياء جميعاً ، حتى أن النبوة الخاتمة بكل عطائها ، ومقوماتها ، وأهدافها ومنطلقاتها ، لم تخرج عن أن تكون لبنة ، في البناء النبوي الممتد ، مع رحلة الإنسان على الأرض ، وقد ألمح إلى هذا وأكده الرسول صلي الله عليه و سلم بقوله: (مَثَلي ومثُل الأنبياء من قبلي ، كمثل رجل بنى بنياناً ، فأحسنه وأجمله ، إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه ، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له ، ويقولون : هلا وضعت هذه اللبنة ؟ قال : فأنا اللبنة ، وأنا خاتم النبيين ) (رواه مسلم).
حتى إننا لنجد في القرآن الكريم ، الذي يمثل اللبنة الأخيرة ، أو المنهج الأخير للنبوة ، الذي انتهت إليه النبوات ، مساحة كبيرة ، لدعوة الأنبياء ، وقصصهم مع أقوامهم ، وكيفيات تعاملهم مع المجتمعات ، وخلاصة التجارب التاريخية ، التي صدقها الوحي ، وتحققت من خلال سنن الحياة الاجتماعية والنفسية ، والتي تشكل رصيداً في بناء مرحلة النبوة الخاتمة.
لذلك بالإمكان القول : إن الصورة الأخيرة التي انتهت إليها النبوة لا تخص فترة النبوة الخاتمة ، ولا تقتصر عليها من الناحية الزمانية ، والمكانية ، والحضارية ، والثقافية ، وإنما هي في الحقيقة ثمرة النبوة التاريخية ، بكل بنائها وعطائها ، وإن النبوة الخاتمة ، هي لبنة في هذا البناء المتكامل الكامل ، لذلك فقول الله تعالى : (إن الدين عند الله الإسلام ) (آل عمران:19) إنما يعني من الوجوه كلها ، أن الإسلام هو العنوان والسمة والتعريف ، لهذا البناء النبوي التاريخي الكامل المتكامل ، وإن انتهت تسميته إلى النبوة الخاتمة ، وأصبح علماً عليها .
لذلك فالإسلام الذي جاء به محمد صلي الله عليه و سلم ، هو ملة إبراهيم ، ودين موسى ، وعيسى ، والأنبياء من قبل ، قال تعالى : (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه .. ) (الشورى : 13) .. وأن أي صدق مع منهج النبوة التاريخي ، يقتضي الإيمان به ، وأن الدعوة إلى الإبراهيمية ، ووحدة الأديان ، خارج نطاق الإسلام ، الذي حقق وحدة الأديان - إضافة إلى أنها تشوية للتكامل والكمال ، وحفريات تاريخية لا طائل من ورائها ، إلا المزيد من التضليل - هي نكوص ، وانتكاس ، وتراجع على طريقٍ دارسةٍ.
وكذلك نرى أن اليوم الذي نزل فيه قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ) ( المائدة : 3 ) ، إنما كان ذلك الاصطلاح دليلاً على اكتمال البناء ، الذي تعتبر النبوة الخاتمة ، تسديداً وتصويباً لنقصه ، حتى بلغ الكمال .. فالخطاب من كل الوجوه ، خطاب للبشرية جميعاً ، ولأبناء الأديان السابقة ، التي انتهت نبواتهم إلى الصورة الأخيرة ، إلى الإسلام الشامل ، ذي العمق ، والبعد التاريخي ، والبعد المستقبلي معاً .. فالإسلام الذي نزل على محمد صلي الله عليه و سلم ليس مقطوعاً عن الماضي ، ولا مبتوراً من سياقه ، وإنما استوعب الماضي ، في بناء الحاضر ، قال تعالى
ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل ) ( الحج : 78 ) كما أحسن بناء الحاضر ، وكماله ، في ضوء عطاء النبوة التاريخي ، ليصبح الإسلام بناء المستقبل الخالد ، ومنهجه الدائم ، الذي اكتمل ، وكمل على يدي محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام ، وأصبح في مأمن من النقص والانهدام ، قال تعالى: (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون ) (المائدة : 3) .
والذي نراه هنا أن منهج اللبنة ليس مقتصراً على بناء الأنموذج ، وإنما هو منهج كل بناء ، أو إعادة بناء .. وكل لبنة من هذه اللبنات ، تشكل مرحلة للاقتداء بما يماثلها ، شريطة استصحاب صورة البناء الكامل ، التي لابد أن تشكل اللبنة مرحلة للانتهاء إليها .
وقضية أخرى ، في إطار منهج اللبنة ، يمكن أن نلمحها في سنة الرسول صلي الله عليه و سلم ، وطريقته في التغيير والبناء الحضاري ، وهي أنه بالرغم من الرصيد التاريخي لدعوة الأنبياء مع أقوامهم ، والخلاصات التي انتهت إلى النبوة الخاتمة ، وساهمت في بنائها وعطائها ، فإن دعوة الرسول صلي الله عليه و سلم ومنهجه في التغيير والبناء ، استغرق ثلاثة وعشرين عاماً ، أي استغرق الزمن المطلوب لبناء جيل كامل ، على رأي علماء الاجتماع ، بدءاً من قوله تعالى : (اقرأ ) - ولا نقصد بالقراءة هنا : تعلم الأبجدية فقط ، وهي مقصودة بلا شك ، كمفتاح للعلم ، وطريق للدين الجديد الخاتم ، ووسيلة للتغيير والبناء الحضاري ، وإنما نقصد القراءة بأبجدية إسلامية ، ذات منهجية خاصة بها .. فليس كل قاريء بالأبجدية ، قادراً عليها ، إذا افتقد الإيمان الذي يعتبر المؤشر الصحيح لتوجيه أبجدية الإنسان ، وربطها بغاياتها .. إنها القراءة باسم الله الخالق ، القراءة باسم الرب الأكرم .. إنها قراءة جديدة متميزة ، عن كل القراءات القائمة ، والأبجديات المعروفة - وانتهاءاً ، بالوصول إلى مرحلة الاكتمال والكمال ، التي أوصلت البناء إلى غايته ، والقراءة إلى هدفها ، بقوله تعالى : (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً )( المائدة : 3) .
ومن الأمور الأساسية التي قد يكون من المفيد التوقف عندها قليلاً ، ونحن نحاول ، تحديد بعض الملامح ، لمنهج النبوة الخاتمة ، في التغيير والبناء الحضاري ، قضية بشرية الرسول صلي الله عليه و سلم وخضوعه في حمله ، وولادته ، ورضاعته ، وشبابه ، وهرمه ، ومرضه ، ووفاته عليه الصلاة والسلام ، للسنن الفطرية ، والقوانين الطبيعية ، التي يخضع لها سائر البشر .. فلقد كان حمله طبيعياً ، استغرق مدة الحمل نفسها ، كما كانت ولادته طبيعية ، كسائر الولادات ، وعانى من فقد الأم والأب ، ككثير من البشر ، وخضع لكفالة الأقارب ، وبلغ سن الشباب ، وعمل في الأعمال ، التي كان يمارسها قومه ، كالرعي ، والتجارة ، وتزوج ، وأنجب ، وفقد الابن ، والبنت ، والصديق ، والزوجة ، وتعرض للأذى والمرض ، والنصر ، والهزيمة ، وحل به من جراحات الحرب ، ما يمكن أن يحل بكل إنسان ، وأعلن أكثر من مرة : أنه بشر من البشر ، وأن النبوة لم تخرجه عن بشريته ، وإنما امتاز عن البشر بالوحي ، والعصمة ، حتى يتأهل ليكون قدوة للبشر ، ويربى على عين الوحي ، قال تعالى على لسان نبيه مقرراً حقيقة البشرية: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي ّ...)(الكهف : 110) .
ولعل من الأمور الجديرة بالنظر هنا ، أن سيرة الرسول صلي الله عليه و سلم التي كانت تنزيلاً لقيم القرآن ، وتجسيداً لها في الواقع البشري ، تمثل منهجاً لكيفية التعامل مع القيم ، وتطبيقها في الواقع ، والأصعدة المختلفة ، بمعنى أن القدوة ، وتقديم النماذج للاقتداء ، لم يتقصر على الحاضر ، وإنما استوعب أبعاد الزمن الثلاثة : الماضي ، بما عرض من قصص الأنبياء كنماذج ، والمستقبل أيضاً في إبصار بعض ملامحه الرئيسة ، والإخبار عن كيفيات التعامل معه ، والواقع الذي يعيشه الناس ، وتقويمه بشرع الله .
لذلك نقول : بأن القدوة هنا ، في الرسالة الخاتمة ، جاءت شاملة شمول الإسلام نفسه ، ولئن كان الأنبياء السابقون ، يمثلون نماذج للاقتداء في مجالات معينة ، فإن النبوة الخاتمة ، قدمت القدوة والأنموذج المحتذى في مجال الدعوة ، ومنهجها ، وكل وسائلها ، ومتطلباتها ، وفي مجال الدولة ، وكل ممارساتها ، ووظيفتها ، وأعبائها ، وعلاقاتها ، وسلمها وحربها .
والحقيقة التي يمكن أن نلمحها هنا ، والتي قد يكون من بعض مدلولاتها أهمية تقديم الأنموذج والقدوة ، أن مساحة تعبيرية كبيرة من سور وآيات القرآن الكريم ، وهي متواترة الورود ، قطعية الثبوت ، قد تضمنت عرضاً تفصيلياً لسيرة الرسول صلي الله عليه و سلم ، والأنبياء من قبله ، حتى لا تبقى القيم والتعاليم الإلهية المنزلة ، نظريات مجردة عن النماذج العملية ، التي تجسد هذه الأفكار في أفعال ، وإنما جاءت في معظم الأحوال ، مقترنة بالأنموذج التطبيقي .. جاءت متلازمة ، مع القدوة ، التي تشكل منهج التعامل ، وتحويل الفكر إلى فعل ، والقيم إلى برامج ، لذلك بالإمكان القول : بأن المنهج ، والأنموذج ، والقدوة ، حٌـفظت بحفظ القرآن ، لأنها لا تقل ، من حيث الدلالة العملية ، عن آياته شأناً في عملية البناء والتغيير ، حتى إن بعض الباحثين المعاصرين - والأستاذ محمد عزة دروزة رحمه الله يأتي في مقدمتهم - كتبوا السيرة من القرآن مباشرة .
وقد يكون من أبرز الخصائص ، التي تجعل المنهج النبوي في التغيير والنهوض والبناء الحضاري ، محلاً للاقتداء والتأسي ، وتجعله أنموذجاً (يحتذى انما هي في واقعيته وتوافقه مع فطرة الإنسان)، وإنه تحقق من خلال تعامله مع السنن الجارية في الكون ، ومن خلال عزمات الإنسان ، بضعفه وقوته ، وتذكره ونسيانه ، وفطرته وغريزته ، ونزوعه إلى الخير ، وانحداره في الشر ، واستيعاب جميع ما يتعرض له من الظروف ، والأحوال ، والقابليات ، من الشدة والرخاء ، والسقوط والنهوض ، والهزيمة والنصر ، ليكون المنهج من ثم دليلاً ومرشداً ، في كيفية التعامل مع الأحوال كلها ، من خلال الاستطاعات المتوفرة ، والظروف المحيطة ، ولم يتحقق من خلال تعامله مع السنن الخارقة ، الخارجة عن طاقة البشر ، التي قد تسهم بالتواكل ، والإلغاء ، وانطفاء الفاعلية ، وتؤدي إلى السلبية ، والإرجاء . واعتمد الزمن ، وسنة الأجل ، كعنصر لازم ، لإنضاج الفعل الحضاري ، وتحكم بالزمن تسخيراً وإنتاجاً ، بعيداً عن النظرة الدهرية والجبرية الزمانية ، التي كانت من مثالب الكفر ، وليس من خصائص الإيمان ، ونستطيع القول: إن المنهج النبوي في التغيير ، والبناء الحضاري ، تحكم بالزمن، وأعاد التعامل مع المسار الحقيقي ، وأكد استدارته كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، وأبطل عبث العابثين بمساره ، ليتحقق الانسجام ، بين السنن الكونية ، وال